ملخص المقال
كانت علم بنت عبد الله بن المبارك عابدة زاهدة من القرن السادس الهجري، كانت تقرأ القرآن ولا تفتر من الذكر، وكانت ورعة صابرة على الفقر.
عَلَم بنت عبد الله بن المبارك عابدة زاهدة من القرن السادس الهجري، كانت تضاهي رابعة العدوية، وتقرأ القرآن، ولا تَفْتُرُ من الذِّكْر، ولم يكن في زمانها مِثْلُها، وكانت صابرةً على الفقر، وَرِعَةً.
هي بنت عبد الله بن المبارك، ووالدها ليس بالطبع العالم الشهير شيخ الإسلام عبد الله بن المبارك الذي هو من تابع التابعين، ومن علماء القرن الثاني الهجري، لم أتوصَّل لترجمة لأبيها على كثرة من اسمهم عبد الله بن المبارك.
تزوجت عَلَم من محمد بن يحيى الزبيدي الذي كان من الفقهاء الوعَّاظ الذين لا يخافون في الله لومة لائم، وأُخرج من دمشق في زمن طغتكين لإنكاره المنكر، وكان صابرًا على الفقر مع كونه كان شيخ الوزير ابن هبيرة في بغداد، وله كرامات، ومات في بغداد عام 555 هجرية عن 95 عامًا.
عَلَم بنت عبد الله بن المبارك والفرح بحسن خاتمة ابنها
من المواقف العجيبة لعَلَم بنت عبد الله بن المبارك أنها مَرِضَ ولدُها أحمد بنُ الزَّبيدي، فاحْتُضر، وجاء وقتُ الصَّلاة، فقالت: يا بني ادخل في الصَّلاة، فدخل وكَبَّر، فماتَ، فخرجت إلى النِّساء، وقالت: هنئنني. قلن: بماذا؟ قالت: ماتَ ولدي في الصَّلاة، فتعجّب الناس من ذلك[1].
من أروع الأمور أن يموت المسلم على طاعة:
المصيبة قد تُلْهِي الأقارب عن الالتفات لمثل هذه الخاتمة، ولكن الواقع أنها -كما طلبت عَلَم بنت عبد الله- أمرٌ يحتاج إلى تهنئة لا تعزية!
روى أحمد عن عُمَرَ الْجُمَعِيِّ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِعَبْدٍ خَيْرًا اسْتَعْمَلَهُ قَبْلَ مَوْتِهِ» فَسَأَلَهُ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: مَا اسْتَعْمَلَهُ؟ قَالَ: «يَهْدِيهِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَى الْعَمَلِ الصَّالِحِ قَبْلَ مَوْتِهِ، ثُمَّ يَقْبِضُهُ عَلَى ذَلِكَ»[2].
وفي البخاري عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيِّ، أن النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «.. وَإِنَّمَا الأَعْمَالُ بِخَوَاتِيمِهَا»[3].
على الأقارب أن يدفعوا المريض المشرف على الموت إلى حسن الخاتمة: كما فعلت عَلَم بنت عبد الله عندما دفعت ابنها للدخول في الصلاة، لعله من هذا المنطلق يجب الحرص على حالة المريض النفسية الجيدة التي تحميه من الوقوع في كلمة يكون فيها سخط أو مخالفة عقائدية، ومن هنا يروي البعض حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي رواه الترمذي وابن ماجة بسند ضعيف عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا دَخَلْتُمْ عَلَى المَرِيضِ فَنَفِّسُوا لَهُ فِي أَجَلِهِ فَإِنَّ ذَلِكَ لَا يَرُدُّ شَيْئًا وَيُطَيِّبُ نَفْسَهُ»[4]، والواقع أنه مع أن الحديث ضعيف إلا أن الثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يلاطف المرضى، ويُهَوِّن عليهم، ويعلِّمهم أدعية تخفِّف عنهم.
وقد روى البخاري عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى رَجُلٍ يَعُودُهُ، فَقَالَ: «لاَ بَأْسَ طَهُورٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ» فَقَالَ: كَلَّا، بَلْ حُمَّى تَفُورُ، عَلَى شَيْخٍ كَبِيرٍ، كَيْمَا تُزِيرَهُ القُبُورَ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَنَعَمْ إِذًا»[5].
والواقع في الحديث السابق أراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يُخَفِّف على المريض كي يقول كلامًا حسنًا، فذكر له أن هذا المرض يُطَهِّره من الخطايا، وأعقب ذلك بقوله إن شاء الله ليخبر أن هذا دعاءٌ، وليس خبرًا، ولكن الأعرابي لم يقبل الهدية، وأبى إلا الردَّ الغليظ، فقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَنَعَمْ إِذًا»! وفي روايات أخرى أن الرجل أصبح ميِّتًا!
وعند مسلم عن أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَقِّنُوا مَوْتَاكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ»[6].
يبتلى المرء على قدر دينه:
روى الترمذي وهو حسن صحيح عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً؟ قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ»[7].
من الصعب أن يموت الابن بين يدي أمِّه، وتظلُّ حاضرة الذهن، وحريصة على حسن خاتمته، ثم لا ترتكب منكرًا بعد الوفاة، ولا تُظْهِر جزعًا، بل تمارس دعوة مع الناس!
حسن خاتمتها:
توفيت عَلَم بنت عبد الله بن المبارك ببغداد سنة 575هـ، وعمرها مئة سنة وستّ سنين، ولم يتغيَّر عليها من حواسها شيء، بل كانت كأنَّها يوم ولدت[8].[9].
[1] ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، وزارة الثقافة والإرشاد القومي، دار الكتب، مصر، 6/ 85.
[2] أحمد (17256).
[3] البخاري: كتاب الرقاق، باب الأعمال بالخواتيم وما يخاف منها (6128).
[4] الترمذي: أبواب الطب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (2087).
[5] البخاري: كتاب المرضى، باب ما يقال للمريض وما يجيب (5338).
[6] مسلم: كتاب الجنائز، باب تلقين الموتى لا إله إلا الله (916).
[7] الترمذي: كتاب الزهد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، باب ما جاء في الصبر على البلاء (2398)، وقال: هذا حديث حسن صحيح.
[8] سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان في تواريخ الأعيان،21/ 266.
[9] لمشاهدة الحلقة على اليوتيوب اضغط هنا: علم بنت عبد الله بن المبارك والفرح بحسن خاتمة ابنها
التعليقات
إرسال تعليقك